ما وراء العيون
الروح هي تلك الذات الخفية، أو النسمة الشجية، أو الكيان الذي يلخص ماهية البشر. هي إذن من الأمور المستعصية على الإدراك، بيد أن جسم الإنسان أبى إلا أن يترك نافذتين مشرقتين مفتوحتين على هذا العالم الغامض، وستائر مرهفة تحجب عنها تارة أنوارا مزيفة وتارة أخرى حقائق قاسية لا تتحملها الجفون. لذلك يقال عن العيون إنها مرايا للروح تنعكس فيها كل مشاعر الحب والحزن والأمل والألم والطموح. فالعيون تضحك قبل الشفتين، وتبكي قبل القلب، وتتوسل قبل الكلام، وتتنافس من أجل الحب، وتكاد تخرج من مقلتيها إن نحن فوجئنا بخبر سعيد أو تعيس. هي إذن جواز سفر لكل الجوارح التي تتغلغل في مكنوناتنا، لذلك فإنك تجد عيون العاشق براقة، وعيون الصادق صامدة رغم انكسارها، وعيون الكاذب تائهة بين الجدران تتأمل بجبن في لوحة معلقة على الحائط أو نافذة تطل على متاهة يؤدي مسلكها الوحيد الأوحد إلى بحر الظلام. فلغة العيون لا تكذب، لا بل يصعب تزويرها أو التحكم فيها مهما حاولنا ذلك، فالعين أصدق من المرآة لأنها لا تقبل الغبار والدخان، وأقوى من الصرخة لأنها تختزل الآلام والأشجان بصمت معبر أو بسيل جارف من الدموع السخية النقية، هي إذن لا تؤمن سوى بالمواجهات الحقيقية ولحظات الود الصادقة. فهل تأملتم يوما في عيون قطة تدافع عن صغارها، أو لبؤة تلاعب شبلها، أو حمامة تاهت من حولها رفيقاتها في دروب السماء المكسوة بالغيوم! لكن العين كذلك تتعب وتصرّ على أن تسدل ستائرها الناعمة لترتاح لو للحظات من قسوة العالم، ترقد لِتُبعَث من جديد في عالم أحلام جميلة ملونة بالحب والتفاؤل والانشراح. فليست الرؤية في الحلم كما الرؤية في اليقظة، إذ إننا في الحالة الأولى نعيش اللحظة من دون أن نمعن في تبصرها، نكاد ننسى بعض التفاصيل من فرط انبهارنا بذلك العالم اللامحدود، بيد أننا نغمض أعيننا كذلك في بعض أوقات اليقظة؛ نغمضها تارة ونحن مجبرون كما في العطاس، أو مقهورون كما في الوجع، وتارة أخرى ونحن مخيّرون أو حالمون في وضح النهار كما هو الحال وقت دعاء صادق، أو سجدة طويلة أو عناق مع شخص تحسه يحتويك بروحه وكيانه كله.   وقد يحدث أن نجد أنفسنا في مواجهة مع عيون غريبة، نتبادل معها نظرات مريبة قد تكون متواصلة أو متقطعة، هادئة أو متأججة، لكنها قادرة على إرباكنا وزعزعة أشياء دفينة وقف الزمن عاجزا عن انتشالها من براثن أرواحنا المنهكة. ورغم أن النظر من العين إلى العين يعدّ علاجا روحيا للبشر، وفرصة للهرب بالذات إلى مواطن جديدة تبقى الرؤية المباشرة والمطولة في بؤبؤ العين بمنزلة اختراق لمكنونات الشخص واقتحام فظ لعوالمه الخفية التي لا تقبل الإعارة أو المشاركة. كما أن التواصل بالعين يبقى رهينا بمدى التقارب الروحي بين الطرفين، إذ إنه لا يمكننا اعتماده إلا مع أشخاص يجاورون الروح ويطلعون على فحوى أفئدتنا من خلال نظرة خاطفة تلخص واقع الحال حتى لو غُلِّفت بابتسامة زائفة! فلغة العيون هي تقريبا أساس كل الفنون، فلا يكون الرقص من دون عيون ضاحكة، ولا النحت من دون تلك الرؤية الثاقبة لأدق التفاصيل، ولا الرسم من دون ذلك التواصل بين خطوط اللوحة وإحساس المتمعن في تركيبتها الفنية المتراصة. ولعلها ليست مصادفة أن تتضمن أشهر لوحات العالم عيونا بشرية حالمة كما هو حال الموناليزا أو لوحة الطفل الباكي.. فلا شيء سوى العين بإمكانه احتواء رؤيا شمولية تجسد الواقع والآفاق وتمزج بين الوضوح والغموض في باقة فنية عنوانها التميز والإلهام. وبقدر ما تمكننا الأعين من اكتشاف الجمال في شتى تجلياته بقدر ما نحتاج أحيانا إلى منحها استراحة قصيرة، لأننا لن ننضج برؤية الماديات ولن نسعد دائما بالتبصر في وجوه الأشخاص الذين نحبهم.   فالعين تميل إلى اللامرئي واللامادي واللامنتهي، لأنها تصبو إلى فتح آفاق جديدة غير مألوفة وتودّ لو تحيد جزئيا عن كل ما هو مرئي لأنه كما قال غاندي "العين بالعين تجعل كل العالم أعمى"، وتسعى إلى الإبحار في عوالم بلا أفق أو خرائط أو حدود. وإذا ما عدنا إلى لحظة إقبال المولود على هذا العالم سنجد عينيه محكمتي الإغلاق كأنه يرفض فتحهما؛ قد يزعجه النور المزيف الذي يؤثث فضاءاتنا، وقد يرفض ذاك الانتقال المفاجئ من عالم أفلاطوني مظلم إلى عالم سيزيفي مضاء، إلا أنه يستسلم في نهاية المطاف لذلك النور المزيف وتجده يمضي أيامه في البحث عنه متناسيا أنه ليس إلا وهما لسعادة مرئية، ويظل هكذا يحافظ على تلك الجوهرتين اللتين يُّخيَّل إليه أنهما مصدر قوته وإلهامه إلى أن يأتي اليوم الموعود ويمنحه المولى عز وجل بصرا فوق بصره يريه به آفاقا ظلت مقفلة ولم يحن قطافها إلا قبيل توديع العالم الملموس. وهل لا بد علينا أن نقطع سنين طوالا أو ننتظر لحظة الموت المهيبة حتى نرى ببصيرتنا وليس ببصرنا؟ هل ما زلنا سننتظر أن نصاب بأمراض أو اضطرابات نفسية لكي نفكر في إغماض أعيننا من دون نوم والنزوح ولو قليلا عن مآسي الحياة القاسية؟ فلنجرب لو لمرة أن ندع رموشنا تضم بعضها وأن نرسم بأنفسنا ملامح حياة لطالما تمنيناها. ولمَ لا نتخيل أنفسنا كطائر يجوب أركان السماء أو كملاك يوزع البسمة والأمل على البائسين أو كنسمة تجول في بقاع الأرض باحثة عن مواطن الجمال وأسرار الحب والدلال ومفاتيح سعادة قد يستحيل إدراكها بأعين مفتوحة؟ أغمضوا أعينكم وسافروا بها إلى حيث تشاؤون لأن الحماقة الحقيقية تكمن في واقعيتنا المفرطة وفي إصرارنا على مواجهة تفاصيل الحياة بأعين مفتوحة!